ادعمنا

السياسة الشرعية - The Islamic legal politics

يعد مفهوم " السياسة الشرعية " من أجل علوم الشريعة مكانًا وقدرًا، وأعظمها نفعًا وأثرًا، وفي القيام بها حراسة للدين وحسن تدبير لأمور المسلمين، كما تعتبر وسيلة هامة لتحليل وفهم طرق إدارة الدول الاسلامية لشؤون رعايها وتعاملاتها مع الداخل والخارج. ويرتبط مفهوم السياسة الشرعية مع العلوم الأخرى ويمتزج بالفقه الاسلامي امتزاجًا طبيعيا، لأن الفقه السياسي بمثابة الفهم الدقيق لقواعد الشرع والعملية الاستنباطية للواقعة الحادثة، وكانت السياسة الشرعية هي أداة التنفيذ والتطبيق لهذه القواعد.

تعريف السياسة لغة:

السياسة لغة مشتقة من الفعل ساس يسُوس سياسة، جاء في تاج العروس في مادة سوس: "سست الرعية سياسة " أمرتها ونهيتها، وفي لسان العرب في المادة نفسها: السوس: الرياسة، وإذا رأسوه قيل سوسوه، وأساسوه، وسوس أمر بني فلان: أي كلف سياستهم، وسُوِّس الرجل على ما لم يسم فاعله: إذ ملك أمرهم، وساس الأمر سياسة: قام به، والسياسة: القيام على الشيء وتطلق على إطلاقات كثيرة ترجع إلى معاني: "القيام على الشيء وتدبيره والتصرف فيه بما يصلحه" . 

تعريف السياسة الشرعية اصطلاحاً:

كلمة (السياسة) لم ترد في القرآن الكريم، لا في مكيِّه، ولا في مدنيِّه، ولا أي لفظة مشتقة منها وصفا أو فعلا. وقد يتخذ البعض من هذا دليلا على أن القرآن -أو الإسلام- لا يهتم بالسياسة ولا يلتفت إليها. وهذا غير صحيح ، فقد لا يوجد لفظ ما في القرآن الكريم، ولكن معناه ومضمونه منتشر متفرق في القرآن.

ولكن وردت كلمة  السياسة في السنة النبوية ، حيث وجد فيها حديثا تضمَّن ما اشتقَّ من السياسة، وهو الحديث عن أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: " كانَتْ بَنُو إسْرائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأنْبِياءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وإنَّه لا نَبِيَّ بَعْدِي، وسَيَكونُ خُلَفاءُ فَيَكْثُرُونَ قالوا: فَما تَأْمُرُنا؟ قالَ: فُوا ببَيْعَةِ الأوَّلِ فالأوَّلِ، أعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فإنَّ اللَّهَ سائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعاهُمْ " .

عُرِّفت السياسة الشرعية في الاصطلاح الشرعي بتعاريف متعددة منها:

عرفها علاء الدين الطرابلسي ( ت 844 ه): حيث عرفها بأنها: " شرع مغلظ ". ويقصد بذلك أن السياسة الشرعية إنما تكون بتغليظ العقوبات بالتعزيز ونحوه للقضاء على الفساد ومواجهته . ويؤخذ عليه أنه قصر السياسة الشرعية على جزء من أجزائها وهو العقاب للمخالف، كما أنه حصر معنى السياسة الشرعية فى الجانب الجنائي أو ما يسمي بفقه العقوبات، والسياسة الشرعية أعم  من ذلك بكثير، فهي تدخل في جميع الجوانب ولا تخص جانبا بعينه.

عرفه ابن نُجيم الحنفي (ت 970 ه): السياسة الشرعية بأنها: " فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها وإن لم يرد بهذا الفعل دليل جزئي ". فالسياسة الشرعية حسب هذا المفهوم تصرف من الحاكم وفق مصلحة يراها أنها مناسبة لرعيته وإن لم يرد دليل خاص من القرآن أو السنة على هذا التصرف. وعرفها  ابن عقيل الحنبلي ( ت513 ه) رحمه الله بأنها: " ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه رسوله ﷺ ولا نزل به وحي " . وهو قريب من تعريف ابن نجيم السابق.

ويؤخذ على التعريفيين أنهما يشملان تصرفات ولي الأمر التي صدر بشأنها من الشارع  المتعلقة بالنص فقط، ولكن السياسة الشرعية متعلقة بالأمور والتوجهات التي تصدر من ولي الأمر فيما لم يرد فيه نص، ويقصد بها إصلاح المجتمع وتنظيم سلوك أفراده، ،وبالتالى إذا أضيف للتعريفيين السابقيين جملة  (بما لم يرد فيه نص )، كان التعريف  صحيحاً، بأن أصبح: ( فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها في شؤون أمته مما لم يرد به دليل جزئي) .

أما الماوردى  فقد عاصر وقت عانى فيه الخلفاء من الفوضى والمواجهات بين السنة والشيعة، مما جعله يضع مصطلح الأحكام السلطانية ليعبر به عن الحياة السياسية وهو " الاحكام المتعلقة بولاة الأمور مما يحسن فيه التقدير ويحكم به التدبير ، وهي الأحكام المتعلقة بالولايات التى تصدر عنها " .

وعرف البعض السياسة الشرعية بأنها: " هي ما يراه الإمام، أو يصدره من الأحكام، والقرارات زجرًا عن فسادٍ واقع، أو وقاية من فسادٍ متوقع، أو علاجًا لوضعٍ خاص "  . وأيضًا عرفها البعض بأنها "  تدبير شؤون الدولة الإسلامية التي لم يرد بحكمها نص صريح، أو التي من شأنها أن تتغير، وتتبدل بما فيه مصلحة الأمة، ويتفق مع أحكام الشريعة، وأصولها العامة "  .

عرفها د.عبد العال عطوة: «فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، فيما لم يرد فيه نص خاص، وفي الأمور التي من شأنها ألا تبقى على وجه واحد، بل تتغير وتتبدل تبعًا لتغير الظروف والأحوال والأزمنة والأمكنة والمصالح». 

وعرفها الشيخ عبد الوهاب خلاف: " تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار مما لا يتعدى حدود الشريعة أو أصولها الكلية، وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين" . ويعتبر هذا التعريف من أشمل وأوضح التعريفات لمفهوم السياسية الشرعية للاسباب التالية :

١- عرّف السياسة الشرعية كوظيفة عامة دون اختزالها بفعل الحاكم، وهو أليق حيث هي صلاحيات موزعة بين الحاكم وسلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وأجهزتها ومؤسساتها، وبهذا يخرج عن إطار الواقع القديم الذي ألقى بظلاله على التعريفات جميعا، ويقترب من وظيفة علم السياسة بواقعه الحديث.

٢- جعلها شاملة محتملة لما ورد فيه نص وما لم يرد فيه نص، وهو حقيقة السياسة الشرعية، حيث ترتبط بالمصلحة المعتبرة شرعاً بشروطها، وإن لم يكن هناك نص، ولم تخالف القواعد الكلية والمقاصد الشرعية؛ وكذلك ما ورد فيه نص لكنه مرتبط بعلة تتغير حسب الظروف فتيتغير الحكم تبعًا لها.

 

عناصر السياسة الشرعية

يتضمن مفهوم السياسة الشرعية ثلاثة عناصر رئيسية وهم كالتالي :

أولًا : الرياسة والقيادة:

وهو أن يكون الرئيس أو الحاكم  قادرًا على القيام بأعباء المهمة الموكلة إليه، رجوعًا لقوله تعالى ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة:47]  .

حددت الآية شرطين أساسَيْن في اختيار الإمام هما : العلم، الجسم. ويقصد به سلامة حواسِّه من النقص وجسدِه من العاهات المؤثرة في الرأي والعمل بالإمامة أو التي تعيب صاحبها ، وأضاف العلماء شرط الذكورة والحرية والعقل والبلوغ والشجاعة، وهذه كلها صفات جِبِلِّيّة، وأما الصفات المكتسبة فهي: العلم والورع .

أما العلم فالشرط أن يكون الإمام مجتهدًا بالغًا مبلغ المجتهدين، وهذا أمر مجمع عليه، عند المتقدمين، ويقدم الأعلم من مستوفي الصفات في حال فقد هذا الشرط ويجب أن يتسم الحاكم  بالتقوى والورع ، إذا استجمع الإمام هذه الصفات الحسية والمعنوية، الجبلّيّة والمكتسبة، كان أهلًا لذلك المنصب، وجَمَعَ الناسُ أمرهم عليه، ونزلوا عند رأيه؛ ذلك أن الغرض الأعظم من الإمامة جمعُ شتات الرأي واستتباعُ رجل أطياف الشعب على اختلاف إراداتهم وأخلاقهم وحالاتهم، فإذا لم يكن المتبوع بالمكانة التي يخضع لها المجموع فسيكون ذلك سببًا للخروج عليه وإثارة الفتن في ولايته.

ثانيًا: القيام على الشيء بما يصلحه :

فإنه يستلزم أن يكون القائم عليه مستجمعًا الصفات التي وردت في الإمام،  فيتفرع عن هذا المبدأ العنصر الثالث في مفهوم السياسة الشرعية .

ثالثًا : الأمر والنهي:

وهو الأمر والنهي أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعروف: كل ما أمر الله تعالى به، والمنكر: كل ما نهى الله تعالى عنه؛ ذلك أن القيام على الشيء بما يصلحه يقتضي معرفة هذا الشيء معرفةً دقيقةً بماهِيَّتِه وأسباب صلاحه وفساده ، فإذا تحصلت هذه المعرفة استطاع القائم عليه أن يُشَرِّع له ما يُصلحه ويؤدي إلى الاستفادة منه على الوجه المطلوب، وهذا أمر عام يشمل عظائم الأمور وصغائرها.

إن النفس البشرية -إذا تجردت عن الهوى- قد تكتسب عن طريق التجربة الطويلة شيئًا من معرفة هذه الحقائق، لكن قد تنقضي أجيال قبل التوصل إلى هذه الحقائق، من هنا كانت رحمة الله تعالى للبشرية التي تمثلت بإرسال الرسل وإنزال الشرائع، فوفّرت على البشرية كثيرًا من الجهد والتجارب التي قد تجر من الويلات ما هو مشاهد إضافة إلى صعوبة تجرُّد الْمُشرِّع من البشر عن هواه وحاجاته التي تؤثر في قراره؛ فتعين أن اتباع أمر الله تعالى في كل شيء عنصرًا أساسًا في السياسة الشرعية.

السياسة الشرعية عبارة مكونة من لفظ منعوت بصفة فهي سياسة مقيدة بكونها شرعية، وهذا يعني أن مصادرها هي المصادر التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية، ومصادرها نوعان: 

أولًا : مصادر نصية: 

- وهي الكتاب ويقصد به القرآن الكريم الموحى به إلى رسول الله محمد ﷺ والمدون بين دفتي المصحف، وإفادته لأحكام السياسة الشرعية يأتي على وجهين: أحكام منطوقة مباشرة و أحكام تدرك بالاجتهاد.

- السنة النبوية  ما أثر عن الرسول ﷺ من قول أو فعل أو تقرير بشرط أن يصل إلينا من طريق تقوم به الحجة وهو أن يكون الحديث صحيحاً أو حسناً حسبما بيَّن علماء الحديث ذلك. وهى تشريع واجب الإتباع بنص القرآن لقوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُول﴾ [النساء: 59]

- الإجمــــــــــــــــــاع : هو اتفاق جميع المجتهدين من الأمة الإسلامية في عصر من العصور بعد وفاة الرسول ﷺ على حكم شرعي.

- العرف : ما استقرت عليه نفوس الناس، وتلقته طباعهم السليمة بالقبول وصار عندهم شائعاً، في جميع البلاد أو بعضها قولا كان أو فعلاً .  

ثانيًا: مصادر اجتهادية : 

وهي مصادر تعتمد على المصادر النصية يجمعها كلها لفظ الاجتهاد : 

- القياس: هو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص بحكمها، في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم. ومذهب جمهور علماء المسلمين أن القياس حجة شرعية على الأحكام العملية، وأنه في المرتبة الرابعة من الحجج الشرعية. 

- المصلحة المرسلة : من الأمور المقررة عند أهل الإسلام أن الفقه في مجمله قائم على اعتبار مصالح الناس، وتصحيح أفعالهم على مقتضى الشرع ما أمكن. ذهب جمهور العلماء إلى حجية العمل بالمصالح المرسلة، أي بناء الحكم عليها واعتبارها أصلاً تثبت بها الأحكام السياسية الشرعية إذا توفرت فيها الشروط الآتية: أن يتحقق من بناء الحكم عليها جلب مصلحة أو درء مفسدة. أن تكون المصلحة التي يبنى الحكم عليها كلية لا جزئية. ألا تعارض المصلحة حكماً أو قاعدة تثبت بالنص أو الإجماع.

- الاستــحسان : عرف أبو الحسن الكرخي الاستحسان بقوله: العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه هو أقوى.

- سد الذرائع : هى ما يتوصل به إلى الشيء الممنوع المشتمل على مفسدة، ومعنى سد الذريعة: المنع منها، والحيلولة بينها وبين ما تفضي إليه. 

 

المصادر والمراجع:

فؤاد عبد المنعم أحمد ، السياسية الشرعية وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية وتطبيقاتها المعاصرة ، البنك الاسلامى للتنمية معهد التدريب والبحوث ، 2001، جدة.

البخاري ، صحيح البخاري ، الصفحة أو الرقم: 3455 ، خلاصة حكم المحدث : صحيح.

يوسف القرضاوي ، السياسة الشرعية ، مكتبة وهبة ، الطبعة الأولى ، 1989 ، مصر.

صلاح الصاوي ، نظام الدولة في الإسلام ، دار الهداية،  الطبعة الأولى ، 1998 ، مصر.

عبد الوهاب خلاف ، السياسة الشرعية أو نظام الدولة الإسلامية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية، المطبعة السلفية ،1956 ، القاهرة.

ياسر مقداد ، فقه السياسة الشرعية .. تطور المصطلح ودلالة المفهوم ، رواء ، 29 فبراير 2020.

ماجد درويش ، مدخل إلى السياسة الشرعية ، المجلس الاسلامى السورى ، مقاربات ، العدد السادس.

أبو المعالى الجوينى ، غياث الأمم في التياث الظلم ، مكتبة إمام الحرمين ، الثانية، 1401هـ ، الرياض.

الكزرى العربى ، مصادر الفقه السياسي الإسلامي ، المركز الديمقراطى العربى 22، أغسطس 2020.

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia